فصل: 2- ماذا كانت الشّجرة الممنوعة؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب الأمثل:

{وقاسمهما إِنّي لكما لمن الناصحين}.
لم يكن آدم يمتلك تجربة كافية عن الحياة، ولم يكن قد وقع في حبائل الشيطان وخدعه بعد، ولم يعرف بكذبه وتضليله قبل هذا، كما أنّه لم يكن في مقدوره أن يصدّق بأن يأتي بمثل هذه الأيمان المغلَّظة كذبًا، وينشر مثل هذا الحبائل والشباك على طريقه.
ولهذا وقع في حبال الشيطان، وانخدع بوسوسته في المآل، ونزل بحبل خداعه المهترئ في بئر الوساوس الشيطانية للحصول على ماء الحياة الخالدة والملك الذي لا يبلى، ولكنّه ليس فقط لم يظفر بماء الحياة كما ظنّ، بل سقط في ورطة المخالفة والعصيان للأوامر الإِلهية، كما يعبّر القرآن عن ذلك ويلخصه في عبارة موجزة إِذ يقول: {فدلاّهما بغرور}.
ومع أن آدم- نظرًا لسابقة عداء الشيطان له، ومع علمه بحكمة الله ورحمته الواسعة، ومحبته ولطفه- كان من اللازم أن يبدّد كل الوساوس ويقاومها، ولا يسلّم للشيطان، إِلاّ أنه قد وقع ما وقع على كل حال.
وبمجرّد أن ذاق آدم وزوجته من تلك الشجرة الممنوعة تساقط عنهما ما كان عليهما من لباس وانكشفت سوءاتهما {فلمّا ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما}.
ويستفاد من العبارة أعلاه أنّهما بمجرّد أن ذاقا من ثمرة الشجرة الممنوعة أُصيبا بهذه العاقبة المشؤومة، وفي الحقيقة جُرِّدا من لباس الجنّة الذي هو لباس الكرامة الإِلهية لهما.
ويستفاد من هذه الآية جيدًا أنّهما قبل ارتكابهما لهذه المخالفة لم يكونا عاريين، بل كانا مستورين بلباس لم يرد في القرآن ذكر عن حقيقة ذلك اللباس وكيفيته، ولكنّه على أي حال كان يعدّ علامة لشخصية آدم وحواء ومكانتهما واحترامهما، وقد تساقط عنهما بمخالفتهما لأمر الله، وتجاهلهما لنهيه.
على حين تقول التّوراة المحرفة: إِنّ آدم وحواء كانا في ذلك الوقت عاريين بالكامل، ولكنّهما لم يكونا يدركان قبح العري، وعندما ذاقا وأكلا من الشجرة الممنوعة التي كانت شجرة العلم والمعرفة، انفتحت أبصار عقولهما، فرأيا عريهما، وعرفا بقبح هذه الحالة.
إِنّ آدم الذي تصفه التّوراة لم يكن في الواقع إِنسانًا، بل كان بعيدًا من العلم والمعرفة جدًّا، إِلى درجة أنّه لم يكن يعرف حتى عريه.
ولكن آدم الذي يصفه القرآن الكريم، لم يكن عارفًا بوضعه فحسب، بل كان واقفًا على أسرار الخلقة أيضًا عِلم الأسماء، وكان يُعَدّ معلّم الملائكة، وإِذا ما استطاع الشيطان أن ينفذ فيه فإِنّ ذلك لم يكن بسبب جهله، بل استغلّ الشيطان صفاء نيّته، وطيب نفسه.
ويشهد بهذا القول الآية (27) من نفس هذه السورة، والتي تقول: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أُخرج أبوَيكم من الجنّة ينزع عنهما لباسهما}.
وما كتبه بعض الكّتاب المسلمين من أن آدم كان عاريًا منذ البداية، فهو خطأ بيّن نشأ ممّا ورد في التّوراة المحرفة.
وعلى كل حال فإِنّ القرآن يقول: إِن آدم وحواء لمّا وجدا نفسيهما عاريين عمدا فورًا إِلى ستر نفسيهما بأوراق الجنّة: {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة}.
وفي هذا الوقت بالذات جاءهما نداء من الله يقول: ألم أُحذِّركما من الاقتراب والأكل من هذه الشجرة؟ ألم أقل لكما: إِنّ الشيطان عدوٌّ لكما؟ فلماذا تناسيتم أمري ووقعتم في مثل هذه الأزمة: {وناداهما ربّهما ألم أنهكما عن تلكما الشّجرة وأقل لكما إِنّ الشّيطان لكما عدوّ مبين}.
من المقايسة بين تعبير هذه الآية والآية الاُولى التي أجاز الله فيها لآدم وحواء أن يسكنا الجنّة، يستفاد بوضوح أنّهما بعد هذه المعصية ابتعدا عن مقام القرب الإِلهي إِلى درجة أنّ أشجار الجنّة أيضًا اضحت بعيدة عنهما. لأنّه في الآية السابقة تمت الإِشارة إِلى الشجرة بأداة الإِشارة القريبة {هذه الشجرة} وأمّا في هذه الآية فقد استعملت مضافًا إِلى كلمة {نادى} التي هي للخطاب من بعيد، استعملت {تلكما} التي هي للإِشارة إِلى البعيد.
بحوث:
إِنّ في هذه الآية نقاطًا لابدّ من التوقف عندها:

.1- كيفية وسوسة الشيطان:

يستفاد من عبارة {وسوس له} نظرًا إِلى حرف اللام التي تأتي في العادة للفائدة والنفع أنّ الشيطان كان يتخذ صفة الناصح، والمحبّ لآدم، في حين أن وسوس إِليه لا ينطوي على هذا المعنى، بل يعني فقط مجرّد النفوذ والتسلّل الخفيّ إِلى قلب أحد.
وعلى كل حال يجب أن لا يتصور أن الوساوس الشيطانية مهما بلغت من القوة تسلب الإِرادة والاختيار من الإِنسان، بل يمكن للإِنسان- رغم ذلك- وبقوّة العقل والإِيمان أن يقف في وجه تلك الوساوس ويقاومها.
وبعبارة أُخرى: إِن الوساوس الشيطانية لا تجبر الإِنسان على المعصية، بل قوّة الإِرادة وحالة الإِختيار باقية حتى مع الوساوس، وإِنّ مقاومتها تحتاج إِلى الاستقامة والصمود الأكثر وربّما إِلى تحمّل الألم والعذاب وكذلك فإِنّ الوساوس الشيطانية لا تسلب المسؤولية عن أحد ولا تجرّده عنها، كما نلاحظ ذلك في آدم. ولهذا نرى أنه رغم جميع العوامل التي حفت بآدم، ودعته إِلى مخالفة أمر الله ونهيه، وشجعته عليها، والتي أقامها الشيطان في طريقه، فإِنّ الله سبحانه اعتبره مسؤولا عن عمله، ولهذا عاقبه على النحو الذي سيأتي بيانه.

.2- ماذا كانت الشّجرة الممنوعة؟

جاءت الإِشارة إِلى الشجرة الممنوعة في ست مواضع من القرآن الكريم، من دون أن يجري حديث عن طبيعة أو كيفية أو اسم هذه الشجرة، وأنها ماذا كانت؟ وماذا كان ثمرها؟ بيد أنّه ورد في المصادر الإِسلامية تفسيران لها، أحدهما ماديّ وهو أنّها كانت الحنطة كما هو المعروف في الرّوايات.
ويجب الإِنتباه إِلى نقطة، وهي أن العرب تطلق لفظة الشجرة حتى على النبتة، ولهذا أطلقت- في القرآن الكريم- لفظة الشجرة على نبتة اليقطين، إِذ قال سبحانه: {وأنبتنا عليه شجرة من يقطين}.
والتّفسير الآخر معنوي وهو أنّ المقصود من تلك الشجرة- كما في الرّوايات- هو ما عبّر عنها بشجرة الحسد لأنّ آدم طبقًا لهذه الرّوايات- بعد ملاحظة مكانته ومقامه- تصوّر أنّه لا يوجد فوق مقامه مقام، ولا فوق مكانته مكانة، ولكن الله تعالى أطلعه على مقام ثلة من الأولياء من ذريته وأبنائه رسول الإِسلام وأهل بيته، فحصل عنده ما يشبه الحسد، وكانت هذه هي الشجرة الممنوعة التي أُمر آدم بأن لا يقربها.
وفي الحقيقة تناول آدم- طبقًا لهذه الرّوايات- من شجرتين، كانت إِحداهما أقلّ منه مرتبةً وأدنى منه منزلة، وقد قادته إِلى العالم المادي، وكانت هي الحنطة. والأُخرى هي الشجرة المعنوية التي كانت تمثل مقام ثلة من أولياء الله، والذي كان أعلى وأسمى من مقامه ومرتبته، وحيث أنه تعدّى حدّه في كلا الصعيدين ابتلي بذلك المصير المؤلم.
ولكن يجب أن نعلم أن هذا الحسد لم يكن من النوع الحرام منه، بل كان مجرّد إِحساس نفساني من دون أن تتبعه أية خطوة عملية على طبقه.
وحيث إنّ للآيات القرآنية- كما أسلفنا مرارًا- معان متعدّدة، فلا مانع من أن يكون كلا المعنيين مرادين من الآية.
ومن حسن الاتفاق أنّ كلمة الشجرة قد استعملت في القرآن الكريم في كلا المعنيين، فحينًا استعملت في المعنى المادي التعارف للشجرة مثل: {وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن} التي هي إِشارة إِلى شجرة الزيتون، وتارة استعملت في الشجرة المعنوية مثل {والشجرة الملعونة في القرآن} التي يكون المراد منها إِمّا طائفة من المشركين، أو اليهود، أو الأقوام الطاغية الأخرى مثل بني أُمية.
على أنّ المفسّرين أبدوا احتمالات متعددة أُخرى حول الشجرة الممنوعة، ولكن ما قلناه هو الأبين والأظهر من الجميع.
ولكن النقطة التي يجب أن نذكِّرَ بها هنا، هي أنه وصفت الشجرة الممنوعة في التّوراة المختلفة- المعترف بها اليوم من قِبَل جميع مسيحيي العالم ويهودييه- بشجرة العلم والمعرفة وشجرة الحياة تقول التّوراة: إِن آدم لم يكن عالمًا ولا عارفًا قبل أكله من شجرة العلم والمعرفة، حتى أنّه لا يعرف ولم يميّز عريه، وعندما أكل من تلك الشجرة، وصار إِنسانًا بمعنى الكلمة طرد من الجنّة خشية أن يأكل من شجرة الحياة أيضًا فيخلد كما الآلهة.
وهذا من أوضح القرائن الشاهدة على أنّ التّوراة الرائجة ليست كتابًا سماويًا، بل هي من نسيج العقل البشري القاصر المحدود، الذي يعتبر العلم والمعرفة عيبًا وشينًا للإِنسان، ويعتبر آدم بسبب ارتكابه معصية تحصيل العلم والمعرفة مستحقًا للطرد من جنة الله، وكأنّ الجنّة لم تكن مكان العقلاء الفاهمين ومنزل العلماء العارفين!!
والملفت للنظر أنّ الدّكتور ويليم ميلر الذي يُعَدّ من مفسري الإِنجيل القديرين والبارزين بل من مفسّري العهدين التّوراة والإِنجيل معًا يقول في كتابه المسمى ما هي المسيحية: إِنّ الشيطان تسلّل إِلى الجنّة في صورة حيّة، وأقنع حواء بأن تأكل من ثمرة تلك الشجرة، ثمّ أعطت حواء من تلك الثمرة إِلى آدم، فأكل منها آدم أيضًا، ولم يكن فعل أبوينا الأوليين مجرّد خطأ عادي، أو غلطة ناشئة من عدم التفكير، بل كان معصية متعمّدة ضدّ الخالق، وبعبارة أُخرى: إِنّ آدم وحواء كانا يريدان بهذا الصنيع أن يصيرا آلهة، إنّهما لم يرغبا في أن يطيعا الله، بل كانا يريدان أن يعملا وفق رغباتهما وميولهما الشخصية، فماذا كانت النتيجة؟ لقد وبّخهما اللهُ تعالى بشدّة، وأخرجهما من الجنّة، ليعيشا في عالم مليء بالعذاب والألم والمحنة.
لقد أراد مفسّر التّوراة والإِنجيل هذا أن يبرر شجرة التّوراة الممنوعة، ولكنّه نسب أعظم الذنوب وهو مضادة الله ومحاربته- إِلى آدم... أمّا كان من الأفضل أن يعترف- بدل إِعطاء مثل هذه التّفسيرات- بتطرّق التحريف والتلاعب إِلى هذه الكتب المسماة بالكتب المقدّسة؟!

.3- هل ارتكب آدم معصية؟

يستفاد ممّا نقلناه من الكتب المقدَّسة- لدى اليهود والنصارى- أنّهم يعتقدون بأن آدم ارتكب معصية، بل ترى كتبهم أن معصيته لم تكن معصية عادية، وإِنما كانت معصية كبيرة وإِثمًا عظيمًا، بل إِن الذي صَدَرَ عن آدم هو مضادة الله والطموح في الألوهية والربوبيّة، ولكن المصادر الإِسلامية- عقلا ونقلا- تقول لنا: إِنّ الانبياء لايرتكبون إِثمًا، وإِنّ منصب إِمامة الناس وهدايتهم لا يُعطى لمن يرتكب ذنبًا ويقترف معصية. ونحن نعلم أن آدم كان من الأنبياء الإِلهيين، وعلى هذا الأساس فإِنّ كل ما ورد في هذه الآيات مثل غيرها من التعابير التي جاءت في القرآن حول سائر الأنبياء الذين نسب إِليهم العصيان، جميعها تعني العصيان النسبي وترك الأَولى لا العصيان المطلق.
وتوضيح ذلك: أن المعصية على نوعين: المعصية المطلقة والمعصية النسبية، والمعصية المطلقة هي مخالفة النهي التحريمي، وتجاهل الأمر الإِلهيّ القطعىّ، وهي تشمل كلَّ نوع من أنواع ترك الواجب وإِتيان الحرام.
ولكن المعصية النسبية هي أن يصدر من شخصية كبيرة عمل غير حرام لا يناسب شأنه ولا يليق بمقامه، وربّما يكون إِتيان عمل مباح- بل ومستحب- لا يليق بشأن الشخصيات الكبيرة، وفي هذه الصورة يُعدّ إِتيان ذلك العمل معصية نسبية، كما لوساعد مؤمنٌ واسع الثراء فقيرًا لإِنقاذه من مخالب الفقر بمبلغ تافه، فإِنه ليس من شك في أنّ هذه المعونة المالية مهما كانت صغيرة وحقيرة لا تكون فعلا حرامًا، بل هي أمر مستحب، ولكن كل من يسمع بها يذمُ ذلك الغني حتى كأّنه ارتكب معصية واقترف ذنبًا، وذلك لأنّه يتوقّع من مثل هذا الغني المؤمن أن يقوم بمساعدة أكبر.